كان زوجي مثالاً للاستقامة والخلق. لم أشعر يوماً أن في تصرفاته أي أمر يبعث على الريبة. كان رجلاً منضبطاً، محباً لبيته وأولاده، حريصاً على مصلحتهم وإسعادهم..
كما أن علاقتي به كانت علاقة حميمة.. ولكن لم يكن من عادته أن يسمعني بعض عبارات الإطراء كما يفعل بعض الأزواج.. لكن وجهه ينضح دائماً بأمارات الصدق والصراحة، ونظراته الهادئة الوقور تشي بمعاني الأمن والطمأنينة.
ولكن ماحدث اليوم كان أمراً يبعث على الارتياب، وعندما أربطه بآراء له سمعته يرددها في الآونة الأخيرة في أكثر من مجلس يتضخم هذا الارتياب حتى يغدو أمراً يبعث فيَّ القلق..
كنت في صباح هذا اليوم أنظف بذلة زوجي عندما اصطدمت يدي بشيء قاس في جيب سترته الداخلية.. كان شيئاً كبيراً قد انحشر في زاوية الجيب حتى كاد يمزقه.
لم يكن من عادتي أبداً أن أبحث في أغراض زوجي أو أشيائه أو أوراقه، فقد كانت ثقتي به عمياء.. كما كنت أعرف أن ذلك لا يليق أصلاً...
ولكن وضع هذا الشيء الضخم في جيب السترة على هذا النحو كان أمراً غير معقول ولا مسوغ.. لم لم يضعه في درج مكتبه أو في أي مكان آخر؟..
مددت يدي أخرجه.. كان –فيما يبدو- علبة ملفوفة بورق ((سولفان)) أنيق ملون.
أخرجت العلبة بصعوبة بالغة من جيب السترة، وأردت نقلها إلى مكان آخر... تلبسني فضول قوي –ليس من عادتي- أن أعرف ما في داخل العلبة الأنيقة اللافتة للنظر..
رحت أنزع عنها ورق ((السولفان)) الملفوفة به بحرص شديد وأنا أحس أن يديّ ترتجفان شأن من يرتكب جرماً يخشى أن يقبض عليه متلبساً به..
كان حبّ الفضول أقوى من أن أستطيع مقاومته.. لابد أن أعرف ماذا في داخل هذه العلبة؟... نزعت الورق عنها بمهارة تامة، ثم أخرجت العلبة.. كانت علبة جميلة أنيقة مغلفة بمخمل أحمر.. فتحتها ويداي ترتجفان.. كان في داخلها عقد ذهبي ثمين في غاية الأناقة والروعة.. سحبته من العلبة ورحت أتأمله بإعجابه فإذا قصاصة ورق مطوية تسقط على الأرض.. أخذت الورقة بفضول أكثر.. فضضتها لأقرأ فيها بخط زوجي المتميز الذي أعرفه جيداً كما أعرف زوجي نفسه:
"إليك يا حبيبة عمري.. ونور عينيّ.. حياتنا ستبدأ اليوم.. وستكون دائماً ربيعاً ساحراً لا يغزوه الخريف..".
"صلاح"
تصاعدت الدماء حارة إلى رأسي.. ازدادت رجفة يدي.. لمن يكتب صلاح هذا الكلام؟.. ولمن يحمل هذا العقد الذهبي الثمين؟.. ومن هذه التي ستبدأ حياته معها اليوم؟... راحت الخيوط تترابط في ذهني.. كان زوجي يكثر في الآونة الأخيرة من الكلام على تعدد الزوجات.. كان يبدو شديد الإزراء على من يهاجمونه.. يتهمهم بالجهل وعدم الفقه بأحكام الدين ومقاصد التشريع.. كان يقول: إن التعدد –لمن ملك شروطه-يحل مشكلات اجتماعية كثيرة.. لقد ازدادت أعداد العوانس والأرامل والمطلقات في المجتمعات العربية والإسلامية بسبب الحروب والفقر وتردي الأوضاع الاقتصادية مما يهدد بأزمات خلقية وإنسانية لا حصر لها.
هل فعلتها يا صلاح؟....أهذه الحلية الذهبية لها؟ من هي؟ بماذا تتميز مني؟ لماذا لم تستشرني؟.. فعلتها من وراء ظهري؟ اجتاحتني الغيرة.. أخذ الغضب مني كل مأخذ.. أمسكت العقد بيدي أريد أن أسحقه تحت قدمي.. ثم قلت: ماذا يجدي ذلك؟... إن زوجي رجل عنيد.؟.. أنا أعرف ذلك جيداً... إذا وضع في رأسه أمراً فلابد أن ينفذه ولو انطبقت السماء على الأرض.., ولا ينفع معه أبداً أسلوب التحدي.. إن رأسه أيبس من صخرة، وأنشف من طين الصيف..
حاولت أن أكفكف من حدة انفعالي حتى أتخذ قراراً أقرب إلى الحكمة والعقل.. رحت أقلب الأمر على وجوهه كلها...
اطمأنت نفسي إلى قرار سأتخذه بعد أن أفكر فيه على روية وهدوء. أعدت العقد إلى العلبة، وطويت قصاصة الورق، ووضعتها في مكانها حيث كانت.. ثم أعدت لف العلبة بورق ((السولفان)) الذي كان عليها.. وأرجعت العلبة إلى جيب زوجي وكأن القط لم يأكل من هذا العجين...
***
سيرجع زوجي من عمله بعد ساعتين.. وسأعرف كيف أتدبر هذا الأمر معه. لبست أجمل ثيابي.. تأنقت على غير المعتاد.. طبخت ما يحبه صلاح كثيراً.. ورحت أنتظر ورأسي تعمل..
دخل صلاح في موعده المعتاد.. كان يبدو شديد المرح والانشراح.. قلت في نفسي:
-طبعاً يا صلاح!.. معك حق...
أما أنا فكانت براكين الغضب تثور في أعماقي، ولكني كنت أسكنها على حساب أعصابي.. كنت أستجمع كل ما أستطيع من الحكمة والوقار حتى أبدو طبيعية..
نظر إليَّ صلاح مسروراً، هز رأسه معبراً عن إعجابه، ثم قال لي:
-أنت رائعة الجمال والأناقة اليوم...
ثم أتبعها –وهو يروزني من رأسي إلى قدمي- بعبارة بدت لي كاللغز:
-وأنتِ كذلك؟. يبدو أننا اتفقنا..
قلت مستفسرة:
-ماذا تقصد؟..
ضحك وقال:
-لاشيء.. إنه كلام في كلام..
قلت متظاهرة بالبهجة والحبور:
-هل أضع الغداء؟.. طبخت لك ما تحب..
ضحك وقال:
-ما شاء الله.. وهذه أُخرى...
بدا لي كلامه كالألغاز، ولكني أمسكت ولم أستفسر، قال:
-سنتغدى في الخارج اليوم.. عندي كلام كثير أريد أن أقوله لك..
سقط قلبي بين جنبي.. أوجست خيفة.. لابد أنه سوف يحدثني في أمرها.. حسنٌ على كل حال.. جاءت منك يا صلاح.. اليوم يوم المكاشفة والمصارحة.. سيكون قراري حاسماً..
-عجِّلي بارتداء ملابسك.. ريثما أتوضأ وأصلي.. مابالك تبدين مضطربة؟.. أليست فكرة رائعة أن نتغدى في الخارج بين الحين والحين لنكسر المألوف؟...
قلت محاولة السيطرة على انفعال خفيّ:
-رائعة طبعاً.. وبذلتك الكحلية جاهزة في الخزانة..
اتكأت على العبارة الأخيرة، ولكنه كان قد دخل إلى الحمام ليتوضأ...
***
كانت الخواطر تتزاحم في رأسي طوال الطريق. بدوت شاردة الذهن.. ماذا سيكون جوابي لو صارحني الآن بما في نفسه؟... إني لم أتخذ قراراً بعد.. أنا ساكتة على كل حال.. سأسمعه حتى النهاية.. سأعرف قصة صاحبة هذا العقد الثمين.
لاحظت فجأة أن "صلاح" لم يرتد البذلة الكحلية التي نظفتها له والتي كانت العلبة في جيب سترتها.. ولكن ما أهمية هذا؟...
وصلنا إلى المطعم. جلسنا في ركن منعزل, كان صلاح في غاية البهجة والانشراح. أما أنا فكانت نفسي أوزاعاً بين خواطر كثيرة... ماذا سيقول صلاح؟... كيف سيبدأ؟.. وماذا سيكون ردي عليه؟..
لاحظ قلقي، فقال لي:
-تبدين مشتتة الذهن...
لم أرد، ولكني نظرت في عينيه.. كان بريئاً كالطفل الصغير، يكاد يطير من البهجة، تابع:
-قضيت عمري-كما تعرفين- في الدراسة العمل .. ما تركت حظاً لنفسي ولا لبدني..
غاص قلبي.. كانت بداية غير مريحة.. كأنه يمهد للأمر.. تابع:
-وقد اهتديت أخيراً-وإن بعد وقت طويل- إلى أن من حقي بعد هذا الكفاح الطويل من أجلي وأجلكم أن أستمتع بما تبقى من عمري.. وأن أخفف من غلواء اندفاعي اللاهث وراء الحياة..
غاص قلبي أكثر.. إنه يتحدث عن معاناته.. يريد أن يستثير عواطفي:
-قررت أن أبدأ حياة جديدة..
دخلنا في الجد.. إنه يقترب مما يود الوصول إليه، تابع:
-وستساعدينني على ذلك.. لقد كنتِ دائماً نعم الرفيق في الدرب الطويل.. كنتِ دائماً حريصة على سعادتي وإرضائي..
إنه يريدني أن أستمر في التضحية، أن أقدم أكثر وأكثر.. تباً للرجال من أنانيين! وماذا عني أنا؟.. هل يعقل أن أوافق على هذا الأمر حرصاً على إسعاده؟.. وأنا.. ألا يفكر فيَّ؟ ... هل ملكت عليه صاحبه العقد مشاعره إلى هذا الحدّ حتى قرر أن يبدأ حياة جديدة، وأن يغير نهج حياته؟...
***
شردت خواطري إلى بعيد.. أوشكت الدموع أن تطفر من عيني، ولكني آثرت التجلد..
كان صلاح يتدفق في الحديث بحرارة منقطعة النظير، ولكني لم أعد أسمع شيئاً.. كنت مشغولة بخواطري الملتاعة..
فجأة خيل إليَّ أنني أسمعه يقول:
-ينبغي أن نغيِّر نمط حياتنا.. أن نشعر بالتجدد والنشاط.. أن نعيش حياتنا سعيدة ممتعة كما يرضي الله ورسوله.. أن يهتم كل منا بصاحبه أكثر.. نحن رفيقا عمر.. لقد أسعدني اليوم أن أراك تتأنقين على غير العادة.. هكذا ينبغي أن تكون الأمور.. أن تتأنق المرأة لإرضاء زوجها أولاً.
أحسست أن بعضاً من روحي الذاهلة ترتد إليَّ أكمل:
-وأنا قصرت كثيراً في حقك.. شغلني عنك العلم والعمل.. نسيت أن لبيتي علي حقاً ولنفسي علي حقاً..
لم أكد أصدق أذني، هتفت مستردة روحي، عائدة من شرودي:
-ماذا قلت؟
-ما سمعتِ..
صحت وأنا أضغط على كفه:
-صلاح.. لم أسمع.. أعد علي ما قلته أرجوك..
أعاد.. كان كلاماً دافئاً حنوناً مغسولاً بماء الصدق..
ترقرقت الدموع من عينيّ.. لم أستطع لها حبساً.. ولم أحاول.
وجدته يمد يده إلى جيبه:
-أغمضي عينيك. هذه هدية.. مني عربون الحياة الجديدة التي قررت أن نبدأها.. أنا لم أحضر لك هدية منذ سنوات..
أخرج علبة أنيقة مغلفة بمخمل أحمر، وفتحها.. كان في داخلها عقد ذهبي ثمين:
-انظري.. ما رأيك؟..
قدمه إلي، وهو يسحب من داخل العلبة قصاصة ورق مطوية.. فتحها، ثم قال لي:
-وقد كتبتُ لك في هذه القصاصة، بضع عبارات حملتها مشاعري إليك..
كانت الدموع تترقرق في عينيّ . قال صلاح:
-تقرئينها.. أم أقرؤها لك؟..
هتفت من خلال دموعي، وأنا أحس أني قد أموت من النشوة والطرب:
-بل اقرأها لي يا صلاح.. لعن الله الظنون..
-ماذا قلت؟..
-لاشيء.. لا شيء.. اقرأ أرجوك..
راح صلاح يقرأ بصوت عميق مؤثر:
"إليك يا حبيبة عمري.. ونور عيني.. حياتنا ستبدأ اليوم.. وستكون دائماً ربيعاً ساحراً لا يغزوه الخريف..".